١٢/٣١/٢٠٠٧

الانمساخ .. أمثولة العجز عن الحيــاة


.. أحدهم يـُعيل أسرته حباً لها فحسب و حرماناً للنفس..
إعالتهم هي قدره المأساوي .. لكنّه ، لهذا السبب بالذات يفقد هويّته البشرية و بهذا يفقد إذاً قدرته على الاستمرار في إعالة الأسرة ، و حالما يتوضح ذلك لا تعود الأسرة و المحيط ، مهما حسنت النية ، قادرين على الاعتراف به كإنسان.
ما الذي حدث حقا ً لـ " غريغور سامسا " ؟
شيء خارق يبعده بضربة واحدة عن صفوف البشر ، و لا هو نفسه يبدو أنـّه يفترض ذلك ؟! إذ يتحمّل الانمساخ كشيء لا يبدل أمراً حاسماً في حياته ، إنّ ما ينقص غريغور و جميع الآخرين هو قبل كل شيء فهم ما حدث له . سامسا يُنكر انمساخه ، لا يحاول حتى مناقشة سببه و عائلته لا تفهم هذا الانمساخ .
العلاقات المتبادلة تُقام على حسابات تقديرية و مصالحات لا يعود أحد يدري مداها ، تخرج عن السيطرة حتّى تشوّه الجوهري في الإنسان و تدمره . يُقام نظام المظهر ، ينشأ عالم ظاهره الرضا .. لكنْ في أحلام سامسا ، كما في هواجسنا و أزماتنا الوجودية ، ينقشع هذا المظهر و تبدو الحقيقة على شكل حشرة ضخمة. الذات هي الغريب بشكل مطلق .. المُلغى ، غير الموجود في عالم الأعمال و عالم الأسرة ، الحقيقة المرعبة لهذه القصة هي الإدراك أنّ أجمل العلاقات بين البشر و أكثرها رقـةً و حناناً إنّما تقوم على الخداع .. لا أحد يعرف أو يحسّ ما يكون هو نفسه و ما يكون الآخر. غريغور سامسا شوّه نفسه من خلال تضحيته بنفسه ، و الآن تصير التضحية مرئيةً و قد جرى تشويهها تشويهاً كبيراً لا رحمة فيه . غريغور سامسا خُدع ، تضحيته أيضاً كانت بلا معنى .. كلّ سعادة الأسرة و كل ارتياح كان قائماً على الخداع و على حسابات مستترة ، تحابّ الأسرة ، حاجتها ل غريغور الذي إعتقد أنّه ينبغي عليه أن يؤمّن لأسرته حياة جميلة و آمنة بأن يضحي بنفسه و رغباته ، كان كذباً .. و لم تكن ثمّة حقيقة قـط .
الانمساخ .. هو أصلاً كشفٌ و حسب عمّا كان موجوداً . إنّ القرف و الاشمئزاز هما تفاقم المهانة و الإذلال الذين عرفهما غريغور في السابق . إنّ الحدّة الهائلة ل الانمساخ إنّما تكمن في أنّه يظلّ واقفاً بأقصى تطرف على نقطة لا يمكن الفصل فيها بين الحقيقة و اللامعقول. انمساخ سامسا هذا هو حلم ٌ مجسّم .. هو أكثر من حلم أيضاً .. إنّـه الحقيقة التي تظهر عندما يصبح الانسان نفسه. إنّ الانقسام بين عالم حياة سامسا و شكل سامسا الحشري هو الانقسام بين " التصوّر " وَ " الكينونة " . غريغور سامسا هو شخص لا معقول ، قبل تحوّله ، و جزء من محيطه اللامعقول .. لكنّ هذا الشخص يحاول بطريقة مؤثّرة و مأساوية أن يخرج من هذا المحيط كي يصل إلى عالم البشر ، فيموتُ يائساً.
نحن و غريغور ، نشهدُ عن كثب ما الذي يعنيه أن يكون المرء مجرد حشرةٍ زائدة عن اللزوم .. نشهد الاستلاب في عالم ٍ مزيّف و غلبة الماضي المتكرر الذي لا نجاة منه ل غريغور لكنّ ذنبه إنما يكمن في إخفاقه في التمرّد و التحرر . إنّه يتبنى نظرة الآخرين و يصبح لهذا السبب حشرة ً بالنسبة لنفسه .
كان يُمكن لانمساخه أن يؤدي إلى ولادة ٍ جديدة ً، أن يجازف المرء و يعيش حياته الخاصة به .. أن يرفض التكفير إلى ما لانهاية عن ذنب الوالدين و رفض الردّ على الإذلال بإذلال الذات ، من شأنها أن تكون الاستيقاظ من الحياة التي تحولت الى كابوس. كل الإذلالات التي تعرض لها في حياته السابقة تستحوذ عليه ، إنّه لم يجد طريقه إلى حياة خاصة به ، الخوف و التردد منعاه من القيام بالخطوة الحاسمة نحو الحريّة ، إنّه ما زال مجرد ابن و الإنسان الحقيقي لم يُلد قط .
كانت حياته السابقة نوماً ، لكن بالنسبة لمن يتردد طويلاً لا يبدأ الكابوس إلا عند الاستيقاظ .
ألم يكنْ للحشرة أجنحة ٌ لم تستخدمها قط ؟