٣/٣١/٢٠٠٧

الصديق القريب دائماً من نفسي ،

الليلة .. وحيداً في شقّتي ، أغلقتُ باب الغرفة .. و تركتُ لأم كلثوم تغنّي أحد وصلاتها الطويلة .. " أقبل الليل يا حبيبي " ؛ لحن حزين.. مـُغرق في الشجن .. ، تدثرت لحافي و جلستُ في الزاوية ، و للمرّة الأولى منذ فترة طويلة تنتظم أفكاري و تتواتر بشعور بدا مريحاً لوهلة .. لكنّه مؤلم في نهاية الأمر ، و ذلك أنّ استحضار الذكريات جاء حنيناً لماض ٍ مفقود و تفاصيل تكاثفت لحدّ التجسّد .

الحقيقة أنني لم أنطلق من نقطة محددة في قدّاس الذكريات هذا .. مجرّد سؤال عبثي و يائس عن كلّ هذا الذي جرى لحياة كانت حافلة .. اعتقدت بأزليتها يوماً ما .. شعورٌ بائس و قتامه في العين .. و دمعةٌ تستعجل الحضور ، ثمّ وجدتني أُخرج ذكرياتٍ كانت .. دون تحديد .. و كان ما كان .. ؛

قبل ست سنوات ، عزيزي سليم ، و في أيّام – تقريباً – مثل هذه الأيام من العام ألفين .. و مع بداية النصف الأول لي في الجامعة .. ، مدفوعاً برغبة عارمة في ممارسة الحياة بصورها كلّها .. ممتلئاً نعمة ، بعلاقات اجتماعية واسعة كانت مثار استفهامات لا تنتهي .. ، علاقة بدأت متوازنة بين رغباتي و تصوّر عمي للحياة .. ، قصّة حب رائعة كانت قد مضت لتأتي بعدها إلهام .. بكلّ أنوثتها و انطلاقها ، خالقة عالماً سرّياً تداخل فيه الجنس و الصداقة و الغيرة و شيء من الحب و اكتشاف الشهوة الجسدية .. و كلّ ما تفعله العلاقات الآثمة(بحسب التعبير الشرقي) في شابٍّ يتعرّف على ذكورته و يحتفي بملذات الجسد ..

بدا العالم جميلاً حينها .. أحسبه كذلك الآن .. حياةٌ ملوّنة .. لم يكن يشغلني فيها البحث عن هويّة أو تعريف أقدّم فيها نفسي للعالم ، أؤمن بأشياء قد أرفض معظمها فيما بعد .. ،

لا يمكنني القول أنّ تلك الأيام كان لها أن تستمر بذلك اللون .. ، كلّ شيء كان ممكن الحدوث .. لكنّ الدهشة تحصل عندما يحدث كل شيء فجأة .. و يتغير عالمك تماماً ،

.. النتشة مثلاً .. ظهر فجأة في حياتي حينها .. حاملاً معوله ... هادماً طمأنينة الأشياء من حولي .. ، وقع كتاب الوجودية لسارتر .. تفاجئي ب كافكا و كوابيسه و علاقته التعيسة مع والده و العالم .. ثمّ لم تعد إلهام تمتلك منّي سوى جسدي المدمن .. و الأصدقاء من حولي تراجعوا ليصبحوا ك حواري المسيح (تأثّراً لا عدداً ) .. ينتظرون أن أشرح لهم الخلاص .. مع أنّهم سيبيعونني للألم - فيما بعد - بثلاثين من الفضّة .. ، انهدام توازني في العيش مع عمّي .. و واقعي السابق التوفيقي الفكر صار شديد اللامعقولية ... ،

استيقظت ذات صباح معلناً للأصدقاء المنتظرين .. أنّ الله لا يوجد .. و إن هي إلا حياتنا الدنيا .. نخوض و نحزن .. و أنّ حريّة الإنسان الفردية في مواجهة المجتمع هي شرط وجودنا الإنساني .. و دونها ضرب الرقاب و حطام العالم . ..

في لحظة ما .. أعتقد أني تحولت إلى أحد أبطال الروايات .. لم يكن ممكناً التراجع ..

و حده الطريق نحو النهاية .. نهاية مجهولة ، لكنّي لم أكترث أبداً لمعرفتها بقدر ما حرصتُ على درامية الحدث – الثورة ذاتها ..

و ها أنا انتهي قبل النهاية .. كما ترى ... محطّماً .. غارقاً في الدهشة و الوحدة .

... الآن مثلاً حين أتذكر هروبي ذات منتصف ليل من عالم عمّي ، أغراضي الدنيوية البسيطة التي جمعتها في حقيبة صغيرة ، تاركاً خلفي منزلاً مرفّهاً .. دفء .. و سرير و ملايات ملونة و ناعمة .. ، حاملاً ما ظننته صليبي إلى جلجلة العالم الخارجي .. ، متلهّفا لاحتضان حريتي .. ، انطلقت ، تماماً كما الروايات الحزينة ، في يوم ثلجي عاصف .. عارفاً أنّه لا يمكن أن أعود إذ أجتاز عتبة عالمي القديم .. ، أبداً ، نحو المجهول الذي لم يخيفني حينها .. متطلّعاً فقط نحو خلاصي الفردي من عالم يمتد من حدود قريتي الصغيرة حتى منزل عمّي في اسطنبول .. بكلّ ما يمثله ذلك العالم من أفكار و علاقات و أشكال حياة ..

حين أتذكر تلك اللحظة الفاصلة بين الاستقرار و التردّي العبثي في وحشة عالم لم أمتلك فيه لا القدرة و لا الفرصة على التموضع و التقاط الأنفاس .. ، تماماً و كأنني عبرت الباب نحو الهاوية دون سابق علم .. ، حين أتذكر ذلك و أفكر في عجزي الحالي عن الإتيان بأدنى فعل أو حركة تجاه ذاتي .. أدرك تماماً برودة الأيام و خريف الحياة الذي استطال ليأسرني .. و أنّ الحياة ذاتها قد تجاوزتني بمسافة واسعة ..حيث أنّي لا أعلم حقاً هل يمكن أن أمسك بها من جديد ؟

في يوم ممطر .. مع نهايات الخريف .. ، سائراً في شارع الاستقلال الطويل .. البشر يتحركون بآلية هرباً من مطر مفاجئ ، ازدحامهم الحميم الذي طالما أشعرني بقسوة الوحدة و عبثية الحياة في عالم الجموع ..، و لأوّل مرّة .. كنتُ ممسكاً بيد سارة الإيرانية .. نسير بهدوء و احتفاء .. تحت مظلّتها الطفولية الملّونة .. لأوّل مرّة أعرف معنى أن يقترب إنسانان بهذا الحنان و الصفاء .. رأسها الحبيب مرتاحاً على كتفي .. رائحتها .. رائحتي .. رائحة المطر و المكان و الناس ... ، كانت تتحدث عن رغبتها في تصفيف شعرها القصير على طريقة الخمسينيات (صدقنّي لم تكن تعرف ما هي الخمسينات ) .. ، نرتاح في أحد الزوايا ممتلئين بالمطر و حرارة الأنفاس .. يدها الصغيرة تبحث عن شيء غير محدد في صوف كنزتي الشتوية ، و يدها الأخرى في يدي .. عينيها المتوترتين تتابعني .. و أنا .. و أنا محتضناً دهشة العالم ..

أوووه يا صديقي .. ، صورةٌ كهذه ، كيف يمكن استعادة الأحاسيس التي حفّتها ؟ .. كيف يمكن أن تعرج إلى قمّة العالم ثم تعود لتخبر عن الذي رأيته و شعرته ؟

لا أبالغ أيها الصديق حين أخبرك .. أنّي في نهاية ذلك اليوم .. حين عدُت لوحدتي .. بكيتُ .. بكيتُ بحيرة .. و بخوف أن أفقد تلك اللحظة .. بكيتُ لفرحي و اندهاشي لذلك التواصل الطبيعي .. المريح و الحميمي مع إنسان تحبّه.. بكيتُ و أنا أتذكر يدها الصغيرة التي تُمسك بتلابيب ثيابي كطفل صغير تحتضنه .. و أبكي الآن من جديد فقدان كل ذلك .. أبكي أيضاً – كمطر ذلك اليوم – قبلاتها الطفولية التي كانت تُدهشني بها فجأة كطفل يريد أن يوصل لك شعوره بالراحة معك ...

عالمي .. عالمها .. و رحلتْ ..، و بقيتُ أنا .. و لم تزل صور جولاتنا القصيرة و وجها الناعم .. كلماتها البسيطة المقتضبة و التصاقها الطفولي بجسدي .. و يدها التي دائماً ما كانت تعبث بزار قميصي .

صرتُ وحدي .. و في أيام الوحدة القاحلة و الانعزال و صعوبة التواصل مع الآخرين ..

و الجوع المتعاظم لعاطفة .. ، تجدني هذه الصور و تسمم أيّ هدوء ممكن ..

أنا الليلة يا صديق .. أبو عبد الله الصغير يبكي مُلكاً مضاعاً .. !