٨/١٢/٢٠٠٦

انتـــرنت






لم أسمَع حتى صوتها ،

إنه نوعٌ غريب من الألم

أنْ تموتَ حنيناً لشيء لنْ تختـَبره قط ... .

عن " غويرنيكا" و مجزرة قانا




لم تكن مدينة غويرنيكا الإسبانية ذات أهمية إستراتيجية على الإطلاق . كل مافي الأمر أنها كانت تشكل رمزاً لتاريخ إسباني موغل في القدم . ومن هنا ،حين ضربتها الطائرات الألمانية النازية العاملة لحساب الجنرال فرانكو في السادس و العشرين من نيسان (ابريل) 1937، عند الرابعة و الأربعين دقيقة بعد الظهر بالتحديد ، كان واضحاً أن الضربة رمزية ، تتوخى إخافة الجمهوريين المناضلين ضد فاشية فرانكو، و تأليب المدنيين على المسلحين و استهداف مدينة لها في الذاكرة مكانة أساسية .




طبعاً يمكننا هنا أن نبدل الأسماء ، فمثلاً نضع أولمرت مكان فرانكو ، والطيران الإسرائيلي مكان الطيران الألماني النازي .. ثم نطلق على هذه المدينة - الرمز اسماً معاصراً ، وهو في هذا الإطار قانا . و بهذه القلبة سيكون ممكناً لنا أن نعيد قراءة واحدة من الأعمال الفنية الأكثر شهرة و أهمية في تاريخ القرن العشرين كله ، لوحة "غويرنيكا" لبيكاسو .

والحقيقة أن كثراً في هذا العالم حين راحت تصل إليهم عبر شاشات التلفزة أول صور المجزرة البشعة التي إرتكبها الطيران الإسرائيلي في قانا ،يوم 30 يوليو/ تموز الماضي، ،تذكروا بالتأكيد لوحة بيكاسو أكثر مما تذكروا أي شيء آخر . فالرعب الذي نقلته الشاشات الصغيرة بدا منتزعاً على الفور من الرعب الكامن في هذه اللوحة ،ما يضعنا من جديد أمام السؤال الخالد : ماهو الدور الذي يمكن الفنان أن يلعبه وسط ظروف دامية قاهرة مرعبة .

بيكاسو ،في هذه اللوحة قدم الجواب : دور الفن هو أن يلخص روح الحدث انطلاقاً من علاقته بالتاريخ ، ليجعله بالتالي جزءاً من التاريخ و ليس فقط جزءاً من الماضي.


و إذ صور بيكاسو في لوحته مجزرة غويرنيكا ، انتزعها من جمودية الماضي حين كان يمكن لكتب التاريخ أو النصوص الجامدة أو الشعارات النضالية أو نشرات الأخبار أن تضعها ، ناقلاً إياها إلى حركية التاريخ وآنيته الدائمة ، وليس أدلّ على هذا من أن إنسان زماننا لم يعد في إمكانه أن ينسى تلك المجزرة طالما أن اللوحة ماثلة هناك تذكره بها في كل لحظة . ولكن ليس بها وحدها بالطبع ، بل كذلك بالمجازر التي ارتكبت دائماً و كان الجلاد فيها من بني البشر ، تماماً كما الضحية فيها من بني البشر. و من هنا لم تعد اللوحة في تعبيرها الجوهري حديثة إنفعالية ذات موضوع عابر، بل تصبح صرخة ضد كل فاشية و ضد كل قتل جماعي و ضد كل سلاح يستخدم لقتل البراءة . و هذا أمر عبر عنه بيكاسو ،صاحب اللوحة، في كل وضوح حين قال عن الرموز التي في اللوحة " إن الثور هنا ليس الفاشية في حد ذاتها ، بل هو رمز للوحشية العمياء و للعتمة المطلقة .. " أما الحصان فإنه يمثل الشعب .. هذا التأكيد الذي أورده بيكاسو هنا وجد ،على أية حال، معارضة له من كثر من الباحثين و النقاد الذين قالوا ان الثور لا يبدو على الشر و العزم اللذين يتحدث عنهما بيكاسو . وهذا في رأيهم واضح من خلال وقفة الثور الذي إذ يبدو في حيرة من أمره يتأمل بدوره أفق الحدث ، لايقل رعبه الخاص عن الرعب الذي يمثل في وقفة الحصان ونظراته ، ولا طبعاً في مشهد الضحايا، مقتولين أو مرعوبين، شاخصين غلى الأعلى نحو الطائرات التي قتلتهم أو الى الأسفل نحو الأرض التي تبتلعهم، و من هنا فإن هؤلاء النقاد يقترحون ان الشر هنا لا يتمثل في الثور الذي قد يكون ضحية بدوره على قدم المساواة مع الاخرين . الشر هو العدو الذي لا نشاهده في اللوحة . الموجود خارجها في اللامكان، ما يعني أن لبيكاسو رسالة واضحة ، تاريخية هنا بالنسبة الى ضحايا الحروب الحديثة، يظل العدو (الشر المطلق) مجهولاً لا سمات له و لا أبعاد إنسانية أو حياة مثل بقية المخلوقات.

و الحقيقة أن هذه اللوحة ، وبعيداً من السجالات النظرية و نقاشات المؤرخين و الأكاديمين ، احتفظت و لا تزال تحتفظ حتى اليوم بقوتها التعبيرية الهائلة التي تجيب عن سؤال يتردد دائماً حول السبب الذي يجعل الفن يتجاوز في حضوره و بقائه الأصل الحدثي الذي يعبر عنه، وهذه الإجابة تتعلق بالتأكيد بذلك الفارق بين فن يتعاطى - و ها نحن نكرر هنا ما جاء في أول هذا الكلام- مع الحدث ليس في بعده كماضً بل في بعده كتاريخ.. طالما ان بيكاسو أجاب هنا عن السؤال الذي دائماً ما يُطرح على
المبدعين حين تقع الأحداث.


أليس في هروعنا اليوم للحديث عن لوحة الفنان الكبير هذه منذ اللحظة التي دمّرت فيها وحشية الطيران الإسرائيلي ملجأ مملوءاً بالأطفال ( الذين و هم جثث بدت على وجوههم كل براءة الكون و كأنهم يتساءلون عن هوية قاتلهم بفضول، وعن معنى القتل في الوقت نفسه) .. إدراكاً عملياً لفحوى الجواب الذي قدمه بيكاسو ؟




( إبــراهيم العريس - عن الـ غويرنيكــا )

٨/١٠/٢٠٠٦

دون كيخوت .. يـســقـط في النهـايـة






" هنا كانت طروادة ..

هنا جَـــرََف شقائي ، و ليس جُبني .. أمجاديَ المكتسبة ،

هنا إستخدم الحـظّ معي تقلّـباته ،

هنا لفّت العتمة مآثري ..
هنا سقط سعدي

سقوطاً لا نهوض منه "

( دون كــيخوت دي لا منتشــا )